في رائعَته "الخيمْيائي" أو "الكيميائي"؛ يَقْصِدُ الرّوائي البرازيلي الشَّهيرُ "باولو كويهلو/كويللو" المَفتونُ بعالَمِنا الشَّرْقي؛ إلى ضرورةِ التّواصلِ بين الشّعوبِ والحضاراتِ، لجَنْي ثِمارَ المُنْجزاتِ الفكريةِ والحضاريةِ؛ كي تعيشَ الإنسانيةُ بسلامٍ واطمئنانٍ، بعيدًا عنِ الكراهيةِ المتبادلةِ النّاتجةِ عن صِراعاتٍ إيديولوجيةٍ وعقائديةٍ مَوروثةٍ يَشوبُها كثيرٌ منَ الأغْلاطِ والتَّشوهاتِ.
يَتضِحُ تأثر "باولو كويللو" بالحضارة والثّقافة العربية الإسلامية؛ نظرًا لأن أمريكا الجنوبية شهدتْ أفواجًا من الهجرة العربية إليها، خاصةً من السّوريين واللبنانيين والفلسطينيين.
حتى زَخرت اللغة البرازيلية بآلاف الألفاظ العربية المتأصلة في معاجمهم (وكذا العديد من لغات العالَم).
عطْفًا على ذلك ثقافتُه هو الخاصّة المستمدة من الأدب العربي؛ كـ "ألف ليلة وليلة، والأدب الصّوفي"، ومكوثِه فترات في أسبانيا؛ حيث حضارة الإسلام الشّامخة، وسفرياته المتعددة إلى المغرب العربي.
ونُنصتُ لإعجابه الشّديد حين يقول: "اكتشفتُ ميدانيًا الثّقافة العربية الإسلامية، ووجدتها أكثر ثراءً وعُمقًا مما قرأتُه وسمعتُه"... في رسالة واضحة للغرب الذين دأبوا على تشويه حضارة المسلمين والعرب.
هكذا جاءنا ذلك القابِع خلف المحيط الأطلسي البعيد؛ ليُسبر أغوار شرقنا وحضارتنا؛ ومن خلال تنقلاته في الرّواية -الزاخره بموروثنا الشّرقي- من البرازيل إلى أسبانيا؛ ثم المغرب؛ فالصّحراء العربية؛ وصولاً لأهرامات مصر بحثًا عن الكًنز؛ ليرسلَ لنا فحوى رسالةٍ بالغة الخصوص والأهمية، مُفادها أن: "السَّاسة المتعصبون يفتعلون صراع الحضارات، ووحدهم المثقفون قادرون على تحقيق الأهداف الإنسانية النّبيلة".
قصصٌ ورواياتٌ يبقى أثرُها على مدى طويل، تُوضِّح قيمة بصْمة المثقف الواعي المستنير في حمل مشاعل الإفاقة؛ ليس لوطنه فقط بل للعالَم كله، فهم دائمًا في مُقدمة الحَراك؛ ليقودوا عملية الإنهاض، وما كان للثّورة الفرنسية أن تصل لأعلى درجات نجاحها؛ لولا أنها استمدت تطلعاتها وأحلامها من فلاسفة فرنسا الذين تحملوا الكثير من المعاناة لقناعاتهم بأفكارهم، ونفس الحال كان في ألمانيا وبريطانيا... كذا الجزائر التي واجهت مستعمرها الفرنسي بالإصغاء لرؤى مفكريها ومثقفيها، والأمر ينطبق برمته على الثّورة الإيرانية أيضًا.
ساعة نُنعِمُ النظر في وطننا العربي؛ نرى مافعله السَّاسة على مدى عُقودٍ مضت، متمسكين برؤاهم هم فقط؛ لا يرجون للمثقفين قدْرًا، لا يُثمِّنون لهم وزنًا، وودّوا ألوِّ انعزل المثقف أو حيَا في عالَم من الأوهام، كي يتوارى العقل العربي، ويُخلي السّاحة للجهلة والمتعصبين ومن يناصرهم من أهل الهوى والمال والإعلام، ليدوم خضوع العربي لقوى تُغيبُه وتَستعبده.
المثقفون على امتداد عالَمنا العربي حالهم اليوم يتراوح ما بين قِلةٍ تقبضُ على الجَمر؛ تُدافع عن محاولات تغييب العقل العربي؛ وغالبًا يُلاحَقون بالقهر والقمع، والبعض فترتْ هِمَّته ولم يجد لأفكاره من يُثمنها؛ فغادر إلى حيث يمارس إنسانيته غربًا أو شرقًا، وغيرهم يُزجون النَّعرات الطّائفية والمذهبية والعرقية، وآخرون يدعمون هزائم الوطن، حين يناصرون عدونا ذلك الذي احتل فلسطيننا، ويصورنه على أنه واحةٌ من الديمقراطية وسط صحراء عرب أجلاف! بل ويَحُضُّونَه -ومن ورائه أمريكا- للسّيطرة على مُقدِّرات الأمة وثرواتها وأحلام شبابها وكل مستقبله.
والمُحصلة النّهائية لذاك الوضع المأساوي ترْك الميدان للشّعوب والجماهير غير الواعية بما يكفي؛ كي تقودنا نحو مستقبلٍ غامضٍ؛ غالبًا سيطيح بالسَّفين وجميع ركابها.
في أحد لقاءاتي مع وفد قَدِمَ من دولة "جنوب إفريقيا" للمشاركة في احتفالات اليوم الوطني لدولة "الإمارات"؛ هالني بالِغُ الدفء والشعور المتدفق تجاه الفلسطينيين؛ في وقت يقود فيه بعض السَّاسة ومن ورائهم أصحاب التّوجهات والمصالح والمشارب المُمولة من الغرب الكاره لنا... يقودون الحملات تلو الأخرى؛ خُلاصتها أنَّ أراضينا المحتلة ومقدساتنا هي من حق أعدائنا خالصةً له ليوم الدّين! لدرجة جعلت أُمَّة ضخمة مُترامية الأطراف جغرافيًّا وسكانيًّا عاجزة أمام "دُويلة" صغيرة لا تملك أي مقومات للبقاء سوى ضَعْف العرب!ْ
أن نركبَ صَهوة التّمني؛ ونتخيل أن كافة مفكرينا ومثقفينا وأكاديميينا سيجتمعون على قلب رجلٍ واحدٍ، وبرنامجٍ ثقافيٍ مُوحدٍ لبني الأمة... حتمًا سيكون الأمرُ ضَربًا من الخيال المستحيل، بل من الجنون والشَّطَط، لكن الأمل مازال معقودًا على ذلك القابِض على الجَمر؛ المثقف الذي يدرك قيمة دَورِه وكلمتِه وقلمِه وفكْرهِ وإبداعِه في النّهوض بوطنه وإنسانه، وإظهار الحقائق، وفي القبض على زِمام الوعي، وإعادة تشكيل وإنارة العقول المُغيبة، مهما كابد من صعوباتٍ؛ أو واجَه من تحدياتٍ أو ملاحقاتٍ من قبل السُّلطات.
أوطاننا مُقَلُ العيون؛ مهما لفَّتها العَتامة والقَتامة؛ فسنبقَى نَحومُ حولها لنَذودُ عنها، ونُعيدُ لُحْمتها... حتى يكاد ليلُها يُضيء.
-------------------------
بقلم: حورية عبيدة